يرتبط اسم المخرج محمد شاكر خضير بصناعة مسلسلات يمكن وصفها بالجدية الموضوعية والتميز البصري، أعمال بها اهتمام كبير بالتفاصيل المكانية والتعامل المعقد مع القضايا الاجتماعية، مثل «تحت الوصاية» 2024 الذي لاقى نجاحًا لرؤيته الواقعية والفنية لعالم محدد جدًا في مراكب صيد دمياط، كما ترتبط الأعمال التي تحمل اسمه باهتمام بتشكيل الحقب التاريخية المصرية المختلفة، وهو ما دشن ما يشبه الموجة من أعمال الفترة period pieces بداية من «طريقي» 2015 مرورًا بـ«جراند أوتيل» 2016، تتناغم بتلك الأعمال عناصر الكتابة والتمثيل والرؤية الفنية.
إذا نظرنا إلى الأعمال التلفزيونية باعتبارها امتدادًا لمُخرجها، أي تناولناها من منطق سينما المؤلف؛ فإن لمحمد شاكر خضير أسلوب واضح وشخصي وميل لاختيارات محددة، لذلك كان من غير المتوقع أن يحيد عنها هذا العام بمسلسل «إخواتي» الذي يخرج عن الشكل النوعي المرتبط به، فهو عمل غير جاد وغير تاريخي، عمل يدمج بين الغرائبية الكوميدية والواقعية الاجتماعية.
في حالة التعامل مع محمد شاكر خضير كمخرج مؤلف فإنه يصعب التعامل مع وجهة ثابتة لمؤلف أو سيناريست العمل مهاب طارق، عمل مهاب طارق على عدة مسلسلات في العام نفسه منها «إش إش» مع المخرج محمد سامي، و«ولاد الشمس» مع شادي عبدالسلام، كل من تلك الأعمال يدور في صيغ فنية مختلفة تمامًا عن بعضها البعض، لكن يجيد طارق التعامل مع كل عمل حسب توجهه الفني وشبكة تأثيراته، يتقارب مسلسل «إخواتي» مع عمل سابق لمهاب طارق وهو «لحظة غضب» 2024 من إخراج عبدالعزيز النجار المعروض رمضان الماضي، كلاهما يتناول جرائم قتل عبثية مفاجئة، تصدر من شخصيات نسائية في سياقات غير متوقعة ويترتب عليها تطوير نوع من الحياد تجاه الفعل نفسه ومدى جديته.
يدور «إخواتي» حول أربعة أخوات تتضافر حياتهن بشكل حميم بعد وفاة والديهن، لكل منهن شخصية متميزة تكتب بعناية لكي تحمل الثقل الكوميدي في الاختلاف والتناغم بينهن عبر الحلقات:
أحلام (روبي) التي تعمل سائقة على سيارتها الخاصة بعد وفاة زوجها مدمن الكحوليات واضطرارها إعالة طفلين، وهي الحكاية التي تكررها على مسامع كل من يقابلها، سهى (نيللي كريم) تعمل في مشغل للخياطة ولديها قدرات متميزة في صناعة وتصميم الملابس لكن تكمن عقدتها الأساسية في رغبتها إجراء عملية تجميل سوف ترضى بعدها عن نفسها، وتتولد الكوميديا المرتبطة بها بعلاقتها بزوجها هشام (علي صبحي) الذي يعمل في التنقيب عن الآثار المصرية القديمة ويربطه رابط عميق بأجداده كما يسميهم، ويمثل نقيض سهى في النسق الأخلاقي، ناهد (كندة علوش) تعمل في مركز تجميل متخصصة في العناية بالأظافر، تلتف حياتها حول رغبتها الغير محققة في الإنجاب، وزوجها فرحات (حاتم صلاح) المدمن على الحشيش والذي يعمل في دفن الموتى ويجد وظائف هامشية للتكسب من الجثث بجانب ذلك، وأخيرًا نجلاء (جيهان الشماشرجي) الأخت الصغرى التي تصدق أن لأحلامها قدرة على التمثل في الواقع، ويدور العمل حول مشكلتها الرئيسية، فبعد زواجها من ربيع (أحمد حاتم) الرجل القاسي المهووس الذي يبعدها عن أخواتها، تتوتر علاقة الأخوات المتناغمة وتترك نجلاء عملها كراقصة فنون شعبية، وتدور حياتها حول ربيع حتى يضع موته حدًا لذلك.
مشهد من مسلسل «إخواتي»
يرسخ العمل للشخصيات الأربعة الرئيسية والشخصيات الثانوية المتمثلة في الأزواج بموضعه الكل في بيئة محددة في منازل الأخوات التي يتناوبن على زيارتها والتجمع فيها بشكل تبادلي، في صيغة أشبه بالعائلة الممتدة، ذلك الترابط والعيش المشترك هو ما يجعل وجود ربيع الذي يمثل الأزمة والمحرك في الحلقات الأولى عائق أمام استمرار الحياة كما هي عليها، أي امتزاج حياة الأخوات الأربعة كما كانت وكما يجب أن تظل، في «إخواتي» يعكر الأزواج الرجال القادمين من خارج نسيج الأسرة صفو حياة نسائية متناغمة، تعكير إذا تداخل في النسق المرسوم مسبقًا فإن انتفاء وجوده يصبح الحل الأفضل، على مدار الحلقات ومنذ الحلقة الأولى التي تكشف موت ربيع أو قتله بعد حلم حلمته نجلا، يهيئ العمل لسيولة أخلاقية في عالمه الداخلي، وسيولة مزاجية في طريقة تناوله، يصبح كل حدث جلل بلا ثقل حقيقي، إيجاد مليون دولار في علبة حلاوة المولد يحمل نفس ثقل وجود جثة رجل في الثلاجة أو سرقة خطاب أثري وإغراقه بالدماء أو الاتجار في الأجساد المتوفاة.
في «إخواتي» كل ما يمكن فعله لتحقيق هدف ما متاح وجائز، تلك الخفة تجعل العمل يتواجد في مساحة حرجة من الدراما المصرية التجارية فهو لا يصل إلى مرحلة قاتمة من الماورائيات أو نظريات المؤامرة على غرار أعمال الكاتب محمد أمين راضي على سبيل المثال، ولا يصصنع من مآسيه ميلودراما شعبية ولا كوميديا بحتة، بل شكلًا من الكوميديا القاتمة التي تتضاد مع المزاج البصري للعمل.
يصمم مدير التصوير بيشوي روزفلت مع مصمم الديكور محمد عطية عالم واقعي سحري، يتواجد في مساحة وسطية بين اليقظة والنوم، تنتقع المنازل في إضاءة دافئة وتفاصيل جمالية حريصة، أطباق معلقة على الجدران وتماثيل صغيرة، وتتغلف مشاهد الأخوات سويًا برومانسية نوستالجية باستخدام الأغنيات التي تمثل فضاءًا صوتيًا يجمعهن في مكان واحد، وأحيانًا أخرى يجمعهن في أماكنهم المختلفة وأحداث حيواتهن التي تقع بالتوازي.
تتحرك الأربعة أخوات بحرية في المساحات العامة، في شوارع وسط البلد أو حتى داخل المقاهي والمطاعم، تحتل كل منهن مساحتها بصريًا بالسيطرة على المحيط الخاص بها وكذلك في الحياة نفسها حيث تظهر هيمنة كل منها على التراتبية الأسرية، سهى قادرة على الكسب أكثر من هشام زوجها نظرًا لسيولتها الأخلاقية في التعامل مع العمل، وناهد قادرة على لوم وشجب زوجها على ذلاته دون احتمالية تعرضها للخطر، أما الزوجين القادرين على الهيمنة التقليدية فأحدهما مات قبل الأحداث والآخر يمثل قتله محركًا لها.
ذلك الميل لتناول شخصيات ذات نسق أخلاقي غير تقليدي برومانسية وتعاطف شديدين يمثل نقطة القوة الرئيسية للعمل، مع الوقت يخلق ذلك قدرة على تفهم دوافع وتصرفات يمكن بسهولة إدانتها في أعمال أخرى، يصبح القتل نابع من الحب وسرقة الآثار فعل رومانسي.
مشهد من مسلسل «إخواتي» يجمع بين نيللي كريم، روبي، كندة علوش، وجيهان الشماشرجي
تحرك أحداث «إخواتي» حتى الحلقة السادسة تقريبًا محاولات دفن جثة ربيع، كل الثقل الدرامي والكوميدي والغرائبي يتمحور حول ذلك، تظل الجثة في المنزل كجزء من الحياة اليومية على طاولة الطعام وداخل الثلاجة، من تلك المحاولات تظهر شخصيات مثل عابدين (محمد ممدوح) الذي يعمل في مكتب للصحة وتربطه بأحلام مشاعر حب من طرف واحد، يظهر عابدين في إطار البحث ليلقى حتفه هو الآخر ليصبح أمام الأخوات مهمة دفن جثتين، يصبح الموت جزءًا من النظام البيئي للعمل فهناك وفيات عن طريق القتل وأخرى طبيعية، ويساهم عمل فرحات كتربي يتاجر في الجثث ويؤجرها لطلبة الطب أو لمصالح أخرى إذا سنحت في تسهيل التخلص من الأجساد الغير مرغوب بها.
في الحلقات الأولى حيث تتصاعد العقد وتتعقد المشكلات قبل أن تجد الحلول تدور الخطوط الدرامية وتكمل بعضها، لكل شخصية دورًا في النظام البيئي الذي يعج بالحياة والموت، كل ما هو جلل يصبح مشكلة أخرى تبحث عن حل، بعد حل أزمة التخلص من ظل الموتى، يتراجع الموت كتيمة ويصبح العمل عن خفة كل شيء، وعن الوصول للأهداف التي غالبًا ما تكون مادية، كل وحدة أسرية تصادفها فرصة للكسب السريع سواء بشكل يرتبط بوظيفتها بشكل غير شرعي أو عن طريق الصدفة. في تلك الحلقات التي تدور حول كسب المال وفقده، وحول تطوير الحياة والترقي الطبقي أو حتى تحقيق الأحلام، تتعقد الأمور سريعًا لكن يتم حلها بشكل أسرع، في كل حلقة أزمة كبرى تنفرج بنهايتها، حتى يصل العمل إلى نقطة محورية وهي نقطة الكشف وقلب الأحداث.
مع بداية عرضه لاحظ الكثيرون تشابهات بين مسلسل «إخواتي» ومسلسل أيرلندي بعنوان «أخوات سيئات» Bad Sisters» 2022»، والمقتبس بدوره من مسلسل بلجيكي قصير بعنوان Clan» 2011»، ليست تلك المرة الأولى التي يقتبس عمل من إخراج محمد شاكر خضير عمل من دولة أخرى، لكن في الحالات السابقة كانت الاقتباسات تتم بشكل أوضح، «جراند أوتيل» هو نسخة مصرية من مسلسل إسباني بالاسم نفسه من إنتاج عام 2011، و«طريقي» هو تناول مصري لمسلسل كولومبي بعنوان «صوت الحرية» من إنتاج 2014.
بمشاهدة الحلقات الأولى من «أخوات سيئات» و«إخواتي» يمكن رؤية التشابهات لكن رؤية الاختلافات كذلك، يكشف «أخوات سيئات» من بدايته تآمر الأخوات على زوج الأخت الذي يعكر صفو الحياة، دون الدخول في مغامرات للتخلص من جثته أو جعل ذلك هو الخط الرئيسي، يتحرك العمل بين ماض قريب وحاضر في الحلقة الواحدة لكشف الثغرات الماضية أثناء تحركه للأمام.
يتجنب «إخواتي» ذلك الخط أي العودة بالزمن أو الكشف عن جريمة القتل من بدايته لكي يجعلها التواءة حبكة مفاجئة، ويتحرك في أطر متعددة ومتشابكة احتفظت لفترة ما بغموض مثير، حيث الغرابة موجودة لأنها هي الحياة، امراة تحلم وتتحقق أحلامها دون بحث في الماورائيات أو محاولة تفسيرها، تسير الحياة بشكلها العادي في ظل تساؤلات يصعب الإجابة عنها، لكن مع الحلقات الأخيرة يؤكد «إخواتي» على اقتباسه الواضح للعمل البلجيكي والأيرلندي بحلقات تفسر كل شيء، كل غرابة وكل خطة وكل حلم، يوقظ المسلسل ذاته من الغموض وحلم الرومانسية الذي بناه من بدايته، ويطرح حلولًا تقليدية ومتوقعة لكل المشكلات، بالكشف عن تآمر الأخوات ينزع جزءًا كبيرًا من السحر عن العمل خاصة في تقنية الكشف التي تكرر كل مشهد من وجهة النظر السارد العليم بعد حل اللغز.
يضيف ذلك الخيار إثارة جديدة بعد خمول أصاب الأحداث مع حل المشكلة الرئيسية، لكنه يفقد العمل فضيلة الغموض وانسياب الأحداث في وضع متأرجح بين الواقعي والخيالي مما أضاف طابعًا مستدعيًا لعوالم الأحلام ليوازي معضلة العمل نفسه، لكن حتى مع خيار قلب الأحداث يظل «إخواتي» عمل متفرد في موسم متخم بالأعمال، عمل سائل نوعيًا وطبقيًا وأخلاقيًا، يطرح رؤى بديلة لشكل الكوميديا وشكل ديناميكيات الأسرة، ويقدم تجربة بصرية وسمعية ثرية.
# دراما رمضان 2025 # دراما رمضان # مسلسلات رمضان # إخواتي # نيللي كريم # روبي # كندة علوش # جيهان الشماشرجي